قراءة في وثيقة "من النيل الى الفرات: نداء الايمان والمواطنة"

قراءة في وثيقة "من النيل الى الفرات: نداء الايمان والمواطنة"[1]

احتضنت مدينة بيروت في السادس من شهر كانون الاول ديسمبر 2014 مؤتمراً "للملتقى الاكاديمي المسيحي للمواطنة في العالم العربي"[2] تمت خلاله اطلاق وثيقة "من النيل الى الفرات: نداء الايمان والمواطنة".

وسأحاول في هذه المقالة التعريف بكل من هذه المبادرة والوثيقة على حد سواء خاصة أنها الوثيقة الاولى من نوعها في العالم العربي والتي يمكن تصنيفها ضمن إطار وثائق لاهوت الشأن العام  [3](Public Theology)

  1. خلفية الوثيقة:

جاءت المبادرة لمثل هذه الوثيقة من مجموعة ديار،[4] وهي مؤسسة فلسطينية، غير حكومية، مقرها مدينة بيت لحم في فلسطين. كانت مجموعة ديار قد عقدت عام 2007 مؤتمراً دولياً تحت عنوان "حاكمية الله وحكم الناس"[5] جمع حينها أكاديميين ومفكرين من اثنتي عشرة دولة.

وقد خرج عن هذا المؤتمر مجموعة من التوصيات نصت احداها على أهمية عقد مؤتمر اقليمي ليعالج هذا الموضوع في سياقه الشرق اوسطي.

وبين خريف 2008-2010 عقدت مجموعة ديار عدداً من المؤتمرات تركزت على العلاقة بين البنى السياسية والجماعات الدينية في الشرق الاوسط.

ومع بدء الحراك العربي أو ما يدعى "بالربيع العربي"،[6] ظهرت الحاجة الى توسيع قاعدة الحوار هذا ليشمل مجموعات مختلفة من الاكاديميين والسياسيين وصناع القرار في العالم العربي بمسيحيه و مسلميه (مع التركيز على دول مصر، سوريا، لبنان، فلسطين والاردن) لتقارب الاوضاع في هذه البلاد نوعاً ما، واختلافها عن دول الخليج العربي من جهة أو شمال افريقيا من جهة اخرى. وقد عملت هذه المجموعة وعبر سنتين الى دراسة مجموعة من الوثائق ذات الصلة[7] قبل أن تنص هذه الوثيقة لتعبر من خلالها عن رؤيتها للواقع الأليم الذي يعيشه الشرق العربي، وعن رؤية المجموعة للمستقبل المنشود.

وكي لا تبقى الوثيقة مجرد "كلمات على ورق" قرر المشاركون تأسيس "الملتقى الاكاديمي المسيحي للمواطنة في العالم العربي" والذي يسعى على تجسيد رؤية الوثيقة في برامج نوعية سواءاً عن طريق الابحاث، او عن طريق المؤتمرات او عن طريق البرامج الشبابية والتدريبية المختلفة والتي ستركز على التواصل مع قطاع الاكاديميين العرب عامة والشباب خاصة لتمكين الشباب من أخذ زمام المبادرة كمواطنين لا متفرجين.

 

  1. أقسام الوثيقة:

لقد جاءت الوثيقة في إحدى وعشرين صفحة بما فيها مجموعة من الهوامش والمراجع الهامة. قسمت الوثيقة الى أربع أقسام، عالج الجزء الاول خلفية الوثيقة، بينما سلط القسم الثاني الضوء على عشرة قضايا مصيرية تشكل بمجملها التحديات الرئيسية التي تواجه منطقتنا. أما القسم الثالث فبحث في الدور المسيحي والوطني المنشود قبل ان ينهي الوثيقة بشهادة ايمانية مسيحية تدعم المواطنة.

 

القسم الاول:

طرح القسم الاول أسئلة أربعة تشكل بمجملها مدخلاً مهماً لفهم الوثيقة. السؤال الأول يعنى بالاسم الذي اطلق على الوثيقة "من النيل الى الفرات" خاصة وقد اسيء استخدام هذا المصطلح الكتابي من قبل الحركة الصهيونية.

أما بالنسبة لمعدي الوثيقة فالنيل والفرات يشكلان منبت الحضارات المشرقية والحاضنة التي انبتت واحتضنت المسيحية المشرقية. ومع ادراك كاتبو الوثيقة ان هذا الاسم شكل ويشكل شفرة "كود" للسيطرة على هذه المنطقة ابتداءاً من سايكس بيكو وانتهاء بالاطماع الصهيونية، الا أنهم يتمسكون بنظرتهم الى الهلال الخصيب هذا كوحدة واحدة ومنطقة "لا يمكن أن تحلق عالياً الا بجناحيها النيل والفرات وقلبها النابض فلسطين".[8]

 

السؤال الثاني يعالج ميزة هذه الوثيقة عن غيرها، ويشدد أن البعد العلمي، الموضوعي والمستند الى الابحاث والدراسات هو ما يميز هذه الوثيقة ويعطيها بعدها الاكاديمي بعيداً عن العواطف المتأججة من جهة أو طبول الخوف والقلق من ناحية أخرى.

وقد جاءت لغة الوثيقة علمانية لدرجة كبيرة الا في الجزء الاخير منها والمتعلق بالايمان، إذ تؤكد الوثيقة أنه لا يمكن فهم الواقع فهماً دينياً، كما لا يوجد "حل ديني" لما تعاني منه المنطقة.[9]

 

السؤال الثالث يفسر لماذا زج بالايمان والمواطنة معاً. وهنا نصنف الوثيقة نفسها كوثيقة من وثائق لاهوت الشأن العام مشددة على أهمية تجديد الخطاب الديني والانتقال بفهم الدين من الغيبيات والماورائيات الى ايمان واع وفاعل يجابه التحديات ويدعم المواطنة والمجتمع المدني. و تشكل هذه الوثيقة مقاربة مسيحية لما يمكن تسميته "بلاهوت المواطنة"،[10] على أمل أن يكون لاهوت المواطنة محركاً لتجديد الخطاب الديني المسيحي.

 

أما السؤال الأخير فيتمحور حول أهمية إنشاء الملتقى الاكاديمي المسيحي للمواطنة في العالم العربي وكي لا تُفهم كحركة يشتم منها رائحة الطائفية والانطوائية التي تنأى بنفسها عن المجتمع، بل تؤكد أهمية مثل هذا الملتقى "غير المرتبط بالقيادات الكنسية التي لها حساباتها" "وغير منطو تحت المحاور الاقليمية والتجاذبات السياسية المتعددة"،[11] وبذلك يؤسس لمنبرأكاديمي فكري وحر منفتح مع كل أطياف الضوء مكوناً منارة يهتدى بها الشباب الجامعيون.

القسم الثاني:

في نظرة قد تبدو وصفاً للواقع المعاش يعدد القسم الثاني التحديات العشر والاهم التي تواجهه العالم العربي اليوم والتي هي وبلا أدنى شك امتداد لسياسات خاطئة تراكمت على مدى العقود الخمس الاخيرة.

ويمكن تقسيم هذه التحديات العشر الى ثلاث أنواع: التحديات الثلاث الاولى ترتبط بشكل أو بآخر بالدول وسياستها، حيث تسود علاقة أقل ما يقال فيها أنها "غير صحية ما بين الدين والدولة"[12] إذ تحتل الدول العربية والاسلامية وحسب الابحاث العلمية الموقع الاخير عالميًاً من ناحية سوء العلاقة بين الدين والدولة.[13]

ومن جهة أخرى هناك شبه غياب لحكم وسيادة القانون[14] والتي تشكل الحماية من التسلط السياسي والديني على حدٍ سواء، هذا بالاضافة الى التجاذبات والتناقضات التي تعاني منها الدساتير العربية والتي لم ترتقي بعد الى العدالة الدستورية المنشودة.

لقد ركزت جل الدول العربية تركيزها على أمن النظام وأمن الدولة[15] وبالتالي امن الحاكم بدل الاستثمار في أمن المواطن وبالتالي وصلت مجتمعاتنا اليوم الى وضع لم يعد فيه أمن لا للدولة ولا للمواطن، وتتطرق الوثيقة هنا الى تحدي الامية والبطالة اللذان يتربصان بالشرق الاوسط وسط انفاقات ضخمة على التسلح.

 

اما التحديات الثلاث الثانية والتي تتطرق اليها الوثيقة فترتبط بالتنمية.[16] فهناك ضعف في ادارة وتنمية الموارد البشرية والطبيعية بما فيها "ادارة التنوع"، وتمكين المرأة لتشترك في بناء المجتمع[17] وتأهيل الشباب أكاديمياً وعلمياً ومهنياً كي تساعدهم على الانخراط في بناء الوطن والاقتصاد والانتاج خاصة وان الشباب العربي يواجهه تحديات تنبع من العولمة والثورة المعلوماتية من جهة ومن البطالة والتطرف الديني ومجتمع الاستهلاك من جهة اخرى.[18]

 

أما التحديات الاربع الاخيرة فتتعلق بالثقافة، وهنا تؤكد الوثيقة على ضعف الثقافة الانسانية بابعادها في عالمنا العربي، وبالتالي الحاجة الى فهم جديد يرتكز على كرامة الانسان،[19] وعلى روحانية انسانية رفيعة وثقافة حضارية اصيلة "تقدس الحياة وتعلي قدر الانسان"[20] وتحفز على "التفكير في زمن التكفير"[21] واستخدام العقل لفهم الامور على علاتها بعيداً عن الغيبيات وتجديد الخطاب الديني ليؤسس لايمان واعي وفاعل، للخروج برؤية واقعية وطموحة لهذا الوطن.[22]


أما في القسم الثالث فتتحدث الوثيقة عن الدور المسيحي والانساني والوطني،[23] هذا المثلث الذي يشكل في نظر معدو الوثيقة وحدة واحدة لا تتجزأ...

كما وتؤكد الوثيقة ان مستقبل مسيحيي الشرق الاوسط وثيق الارتباط بمستقبل الشرق الاوسط ذاته. فلا حل للمسيحيين وحدهم، كما لا حل ديني، مسيحي كان ام اسلامي،[24] بل يستطيع المؤمنون ان يساهموا في نهضة هذا الوطن كما فعل المسيحيون تاريخيا وكما تدعوهم الكتب المقدسة لذلك ليكونوا شهوداً للمسيح ولرسالته.[25]

 

أما القسم الرابع والاهم فيأتي تحت عنوان:

"نؤمن لذلك نلتزم"[26] والعنوان ملفت للنظر إذ يربط بين الايمان المسيحي والالتزام الوطني وكأنهما وجهان للعملة ذاتها.

في هذا القسم يعيد واضعوا الوثيقة صياغة او تفسير قانون الايمان المسيحي مسلطين الضوء على البعد المجتمعي للايمان المسيحي. وربما تكون هذه هي المحاولة العربية المسيحية الاولى لتقديم خطاب ايماني في الشأن العام يرتكز على العقيدة المسيحية.

في هذا القسم يتجسد اللاهوت العربي المعاصر، الذي لا يتقوقع على الذات، ولا يضيع في الغيبيات والماورائيات، ولا ينسحب من المجتمع وتحدياته، بل يجابه الواقع الأليم متسلحاً بايمان واع وفاعل.

لقد أراد واضعوا الوثيقة بهذه الكلمات تأسيس مقاربة جديدة للمواطنة لا تعتمد على الخطاب القانوني والعلماني فحسب، بل ايضاً على خطاب لاهوتي معاصر للسياق الشرق اوسطي المعاش.

ان جدلية الايمان المسيحي والالتزام المجتمعي تتجلى اجمل ما يكون في هذا القسم:

فالايمان بالله الخالق هو الالتزام بكرامة الانسان الذي خلق على صورة الله،[27] والايمان بالله الواحد المثلث الاقانيم هو التزام لوحدة في التعددية،[28] والايمان بيسوع المسيح هو التزام بخدمة الانسان المتألم مع عدم الاستسلام لثقافة اليأس أو الموت بل تجسيد ثقافة تقدس الحياة،[29] فعلى هذه الارض ما يستحق الحياة.

أما الايمان بالروح القدس فهو التزام بتجديد الفكر والمجتمعات بما فيها الخطاب اللاهوتي،[30] أما الايمان بالكنيسة المسيحية الجامعة فهو التزام بالمسكونية والعمل المشترك مع مكونات المجتمع جميعاً،[31] بينما الايمان بغفران الخطايا يفتح الباب على مصراعيه للتصالح مع الآخر وللمغفرة عند الاساءة. [32]

بينما يشكل الايمان بالله الديان قوة للإلتزام بدولة القانون والمساءلة حيث الجميع سواسية في الحقوق والواجبات.[33]

وتنتهي الوثيقة بالتشديد على الايمان بالحياة الابدية، وتحذر من أن شعوبنا التي "تؤمن بالحياة الآخرة بعد الموت راحت تيأس من امكانية وجود حياة كريمة قبل الموت."[34]

لذلك يلتزم معدو الوثيقة "بالعمل على تأمين الحياة الافضل في أوطاننا وأزماننا."[35]

وتنتهي الوثيقة بالقول:

"إذ نحن مسؤولون أمام الله أن نَعِيَ وصيته بطلب صلاح بلادنا وما لصالحها، كما أن لنا حصة ً في مستقبلها."[36] "هذا هو مفهومنا للإيمان الواعي والفاعل، وللتفاعل الإيجابي، وللمشاركة الفعّالة. لذلك:

 

نعم، نحن نؤمن ونلتزم."[37] 

خاتمة:

هل ستغير الوثيقة شيئاً في خريطة الشرق الاوسط؟

أم أنها ستضاف الى جملة من الوثائق التي سبقتها؟

هنا أجد الوثيقة واقعية لا تعد بما لا تستطيع أن تفي به إذ تؤكد:

"نحن لا ندّعي أننا بهذه الوثيقة وبهذا الملتقى سنغير خريطة الشرق الأوسط، كما لا ندعي أن عندنا حلولاً سحرية أو وصفة عجيبة، الأمر الذي تؤكده الوثيقة ، بل ندرك أن الحل لن يكون " إلاّ نتاجَ مخاضٍ ((Process مجتمعي، وعمليّةَ وعيٍ تراكميٍّ، ونضالٍ سلميّ مجتمعي، وحركةِ تحرّرٍ فكري" فكل ما في الأمر أننا نريد أن ندلو بدلونا... وأن نجتهد... وأن نؤمن و نعمل... ونريد أن نفتح نقاشاً جدياً... وموضوعياً والأهم من ذلك أن نسعى  للتفكير والتخطيط والعمل معاً!"[38]

 

 

 


[1] من النيل غلى الفرات: نداء الإيمان والموطنة، بيت لحم: ديار، 2015

[2] www.cafcaw.org

[3] Eneida Jacobsen, ‘Models of Public Theology’, International Journal of Public Theology, 6 (2012), 7-22.

[4] www.diyar.ps

[5] Mitri Raheb (Ed.), God’s Reign and People’s Rule: Constitution, Religion, and identity in Palestine.  Berlin: Aphorisma, 2009.

[6] متري الراهب(محرر)، الربيع العربي ومسيحيو الشرق الأوسط، بيت لحم: ديار، 2012

[7] متري الراهب (محرر)، الدين والدولة: اللاهوت والمرأه والإعلام، بيت لحم: ديار، 2011

[8] من النيل غلى الفرات: نداء الإيمان والموطنة،1-3-2

[9] المصدر نفسه، 1-4-1

[10] Rudolf von Sinner, ‘Brazil: From Liberation Theology to a Theology of Citizenship as Public Theology’, International Journal of Public Theology, 1:3-4 (2007), 338-63.

[11] من النيل غلى الفرات: نداء الإيمان والموطنة،1-6-1

[12] المصدر نفسه، 2-1

[13] Jonathan Fox, A World Survey of Religion and the State, Cambridge: Columbia University Press, 2008.

[14] من النيل غلى الفرات: نداء الإيمان والموطنة، 2-2

[15] المصدر نفسه، 2-3

[16] المصدر نفسه، 2-4

[17] المصدر نفسه، 2-5

[18] المصدر نفسه، 2-6

[19] المصدر نفسه، 2-7

[20] المصدر نفسه، 2-8-2

[21] المصدر نفسه، 2-9

[22] المصدر نفسه، 2-10

[23] المصدر نفسه، 3-1

[24] المصدر نفسه، 3-2

[25] المصدر نفسه، 3-3

[26] المصدر نفسه، 4

[27] المصدر نفسه، 4-1

[28] المصدر نفسه، 4-2

[29]  المصدر نفسه، 4-4 و 4-5

[30] المصدر نفسه، 4-6

[31] المصدر نفسه، 4-7

[32] المصدر نفسه، 4-8

[33] المصدر نفسه، 4-9

[34] المصدر نفسه، 4-10

[35] المصدر نفسه

[36] المصدر نفسه، 4-12

[37] المصدر نفسه، 4-13

[38] المصدر نفسه، 1-6-3