"مقدمة لكتاب الأب رفيق خوري: "الآخر نعمة أم نقمة؟

  • الاخر نعمة ام نقمة

مقدمة  لكتاب الأب رفيق خوري: الآخر نعمة أم نقمة؟

ها هو الأب رفيق خوري يطل علينا من خلال عطاء جديد وهو الذي علمنا ان الحياة عطاء وسخاء لا يعرف الحدود، وها هو يقدم للقاريء العربي اليوم كتاباً جديداً يشكل الجزء الثالث من ثلاثيته "من أجل حدود مفتوحة بين الزمن والابدية".

ويقسم الكتاب الى أربعة أقسام يكاد أولها أن يكون فلسفيا يبحث في مفهوم الآخر والهوية والحوار، حيث يشكل الكاتب مفردات جميلة للدخول في عالم الآخر، ومن هذه المفردات "حوار، تواصل، تلاقي، معا على الطريق، معا أمام الله، نناضل معا، مسيحيون ومسلمون معا." أما القسم الثاني فيدور حول مفهوم الوحدة والشركة والعلاقات المسكونية المسيحية/المسيحية، مع التركيز على الكنائس الكاثوليكية. أما القسم الثالث فيتمحور حول العلاقات الاسلامية المسيحية من منظور شخصي وتاريخي بل وتصوفي (وهذا مجال جديد لم يسبق أن تتطرق الكاتب له) بحثا عن خطاب "العيش المشترك" ونحو "الشهادة معا". أما القسم الرابع والاخير فيحمل عنوان رؤى وأحلام يحاول الكاتب من خلاله أن يجد المعنى في اللامعنى الحاضر، لينقلنا من المأساة الانسانية التي نعيشها الى الرحابة الالهية، وحيث البحر لا يشكل حدا مخيفاً بل جسراً ينسج خيوط اورومتوسطية جديدة. ولا ينبغي أن يغفل القاريء التأمل الافتتاحي"ننثني ولا ننكسر" والذي يشكل عنوانا للمرحلة الحاضرة بل نداءاً نبوياً أصيلاً في تيه الصحراء الكبير.

 وبين دفتي هذا الكتاب يجد القاريء نفسه أمام مجموعة من المقلات التي كتبها الاب رفيق خلال قرنين ونيف وأعاد تنقيحها وتجديدها لتواكب الاحداث الاخيرة التي راحت تعصف بمنطقتنا وبمجتمعاتنا. ويدرك الأب رفيق خوري بحسه المرهف أننا نمر اليوم بمحنة قد تكون الأخطر في تاريخنا بل  بأزمة كبرى، وكأننا نجلس في "فوهة بركان" بل في "أتون نار محرقة" أوصلتنا الى "قاع البئر".

وأحد إرهاصات هذا الانحدار هي القبلية التي تتجلى في تكفير الآخر اما بدافع أفكار طائفية أو اختلافات مذهبية أو عصبية دينية. فمن جهه نرى عنصرية يهودية تكاد تؤله ما هو يهودي لتلغي هوية الفلسطيني الآخر وتميز ضده. ومن جهه أخرى نرى السجال السني-الشيعي وقد شكل محاور قاتلة أكلت الأخضر واليابس، ناهيك عمن يتعرض له المسيحيين والأزيديين من تهديد وجودي لم يسبق له مثيل. ولا يريد الاب رفيق أن ينكر هذا الواقع المرير بأن يضع رأسه في الرمل كالنعام كما يروق للبعض ان يفعل، بل نراه يواجه الواقع المتأزم على بشاعته محاولا قرع الجرس كي لا يأتي الرد على التطرف تطرفاً اشد وأعتى، أو انغلاقاً في هويات قاتلة وضيقة، أو انكفاءًا على الذات في اصوليات متقوقعة، أو التهور باقامة تحالفات خطرة ومميته.  أمام هذا السياق الاجتماعي والسياسي يصبح موضوع الآخر موضوع الساعة، والآخر هنا قد يكون المسيحي ابن الطائفة الأخرى أو الجار المسلم أو الاوروبي الذي يقيم على الشاطىء الآخر أو العلماني الذي يظن أنه على نقيض من الآخر المؤمن. ويجزم الاب رفيق اننا بأمس الحاجة الى "مشروع كبير وجوهري لبناء مجتمعاتنا" وكله يقين أن العلاقة مع الأخر لم تحسم بعد، وأن الكلمة الاخيرة لم تقال بعد، وأن الفرصة ما زالت متاحة لتطوير رؤية مجتمعية على أمل أن تتحول مع الزمن الى مشروع وطني أو قومي يخرج المنطقة من مستنقعاتها الى آفاق مستقبل واعد وكأنه أراد من هذا الكتاب أن يضع اللبنة الأولى لمثل هذا المشروع الكبير. لذلك حمل هذا الجزء الثالث عنوان "الآخر: نعمة أم نقمة؟" وأراد الأب رفيق خوري من خلاله أن يدلي بدلوه، أن يقول كلمته ويمشي، وأن يرمي في الارض بذوره علها تنبت وتكبر وتسهم في بناء مستقبل أفضل مجداً لله وخدمةً للإنسان ورفعةً لمجتمعاتنا.

 الأب رفيق يكتب أولاً كإنسان ملتزم بقضايا شعبه وكنيسته ومهتما بما آلت اليه امور أمته، فهو جزء من هذه الامة بماضيها وحاضرها، كما انه احد اعمدة الكنيسة المحلية وبالتالي لا يقبل الا أن يكون شريكا في صنع مستقبلها. والأب رفيق خوري يكتب ثانياً كمثقف،  وقدر المثقف " أن يجلس دائماً على مساحات غير مريحة، وكأنه على بساط من المسامير، ولعل هذه رسالته: ألا يستريح وألا يريح". ويرفض الاب رفيق أن يكون المثقف خادماً للبلاط، كما يأبى أن يعيش في قفصه الذهبي، بل يبقى مكان المثقف في خضم تفاعلات المجتمع. وكل من عرف الاب رفيق يعرف أنه غزير الثقافة، فهو ملم بالجغرافيا كما بالتاريخ وبالتراث العربي المسيحي، كما بعلم الاجتماع والسياسة. ومع إلمامه بالتاريخ الا أنه يأبى أن يكون حبيس الماضي بمجده وبؤسه، بل تراه متجذراً في الحاضر، يراقب مجريات الامور عن كثب، "يشاهد،  يسمع، يشارك، يتفاعل ويلتزم."  ومع إلمامه بالماضي ومواكبته للحاضر الا ان عيناه تبقيا تسبغان آفاق المستقبل حيث تنفتح "الحدود بين الزمن والابدية"، وحيث رؤياه للمدينة الفاضلة الرؤيوية والذي يسعى  الى تحقيق  شيئاً منها الآن في هذا الزمن الرديء،  وهنا في هذه الارض المقدسة في قلب الوطن العربي.

والأب رفيق خوري يكتب أساساً كلاهوتي يبحث عن نوافذ أمل يستطيع من خلالها أن يكسر آلية القدر المبرم، وبعيونه النبوية يرفض "حتمية التاريخ العمياء"، بل يرى في الأزمات  "أكثر من حاله موت"، بل يرى فيها "فرصةً لميلاد عالم جديد". لذلك نراه يمسك بذيول الأزمة الراهنة يبحث في جوانبها عن بارقة أمل وفي جدرانها السميكة عن ثغرة نور تشير الى فكرمسيحي  لا بل واسلامي جديد لأزمنة جديدة يكون "المستقبل لله والإنسان معاً، عوض أن يصير مقبرة لله والإنسان معاً."

ويلقي هذا الكتاب الجديد كما لا يفعل كتاب آخر ضوءاً جديداً على مسيرة الأب رفيق الحياتية والفكرية. فطيبته من الطيبة التي ولد وترعرع فيها وروحه المسكونية زرعها به والده والذي ورث من كل طائفة شيئا، "الترانيم الكنسية من  عند الأرثوذكس وحب الكتاب المقدس من البروتسنت ومن اللاتين الالتزام بالاسرار المقدسة"، هذا بالإضافة الى المجمع الفاتيكاني الثاني الذي شاء القدر أن يقام والأب رفيق ما زال على مقاعد الدراسة الكهنوتية، خاصةً وقد فتح هذا المجمع صفحةً جديدةً في العلاقات المسكونية المسيحية من جهه وفهماً جديداً في تحديد العلاقة مع أتباع الديانات السماوية وكأنه جاء خصيصاً ليرسم للأب رفيق طريقه ويخرجه من عنق الطائفية التي سادت من حوله الى رحاب مسكونية لا تعرف الحدود.

 ويذكر الاب رفيق كيف  نشأ في بيئة عروبية حيث شكلت العروبة مساحةً لإيمانه كما ويذكر اللاهوتيين الذين أغنوا فكره ولاهوته أمثال الأب ميشيل الحايك والأب يواكيم مبارك من جهة فهمه للإسلام،  والأب جان كوربون منجية فهمه لكنيسة العرب،  والبطريرك ميشيل صباح  من جهة فهمه للإلتزام المجتمعي، هذا بالإضافة الى كتاب غربيين أمثال جان فانييه ورينيه جيرار. ومن خلال هذا الكتاب يتعرف القاريء على الدوائر التي تحرك الأب رفيق بها إبان مسيرته الكهنوتية فأثرت به وأثر بها إبتداءًا من لجنة العدل والسلام، فرع القدس، مروراً بالسنودس الأبرشي في الأرض المقدسة، الى مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، وانتهاءًا بمركز اللقاء الذي شكل البيت الثاني للأب رفيق "والبيئة التي كانت حافزاً له للإنصات لحركة الحياة والتاريخ والمجتمع." ولا عجب والحالة هذه أن يهدي الأب رفيق كتابه هذا الى روح أخيه وصديقه ورفيق دربه الدكتور جريس خوري، رجل الحوار والمودة واللقاء، الذي رحل على غير ميعاد مع كتابة الصفحات الأخيرة لهذا الكتاب، وهو الذي كرس جل حياته ورسالته للتواصل مع الآخر.

أما الادوات التي استخدمها الاب رفيق في كتابه هذا فهي ثلاث:

العقل والايمان والارادة.

العقل: في زمن التكفير وجب التفكير، وفي زمن الفزع والخوف واليأس وجب تحكيم العقل، فبالعقل وحده "يتحكم المرء في الاحداث"، و"اذا استقال العقل" أصبح الأنسان مثل ريشة في مهب الريح تتحكم الأحداث بمصائره، ويحدد الأغراب مستقبله.  لذلك لا بديل عن العقل المفكر الذي ينقل الانسان من "حالة المكابدة المستسلمة الى حالة العقل المبادر."

الايمان:  ان  العقل المفكر وحده كثيرا ما يكون متشائما خاصة في زمن المحنة، لذلك هو بحاجة الى توأمه العقل المؤمن، "الذي يعود الى هويته الايمانية وينابيعه الاصيلة والاصلية، ليجد فيها طاقة تنقله من الاستسلام السلبي الى المواجهة الإيجابية." ومن يعرف الأب رفيق لا بد أن يلاحظ أن مفرداته راح يشوبها نوعاً من الإحباط والتشاؤوم أمام مأزق المنطقة الحالي، ولكنه الإيمان الذي يشحذ به الهمم ويمده بالقوة كي ينحني دون أن ينكسر.

الارادة: ان العقل الذي يشحذه الامل لا يقوى الا بالإرادة والعمل. فتحليل الازمة لا يكفي، ورؤيتها بعيون الإيمان وحدها لا تشفي، بل لا بد من ارادة تسخر الجسد والطاقات الكامنة فيه الى ورشة عمل كبيرة يعمل الانسان فيها على "تضييق مساحات الموت وتوسيع مساحات الحياة." هذه الإرادة التي لا تعرف اليأس تتجلى أجمل ما يكون في دفتي هذا الكتاب، حيث تنفجر قريحة الكاتب فيسل يراعه ليؤرخ لفكر جديد ويفتح فاه ليغدق بكل ما هو نفيس.  

كتاب "الآخر نعمة أم نقمة؟" هو إضافة نوعية للمكتبة المسيحية والعربية. الآخر بركة أم لعنة؟ الجواب على هذا السؤال سيحدد مستقبل المنطقة برمتها. الآخر نعيم أم جحيم؟ "الجواب بين أيدينا كبشر وكمؤمنين!"

الخيار لنا ...ما أحوجنا في هذا الوقت بالذات الى مثل هذا النداء لإيمان عاقل وفاعل، ولرؤية واضحة وثاقبة.  فمن عبر صفحات هذا الكتاب، "ومن على شوارع التاريخ البشري، يحمل المؤلف حلماً وحنيناً ونداءًا"، ويدعونا لنكتشف سراً ثالوثياً جديد يشكل الله، والذات والآخر أضلاعه الثلاث في وحدة مقدسة تأبى القسمة أوالتفرقة.

لذلك يشكل هذا الكتاب صرخة وجب سماعها، ودعوة وجب التأمل فيها وفكراً نبوياً  لا بد منه كي لا نفقد البوصلة في زمن غزو الصحراء القاتل. صلاتنا أن يبارك الرب الأب والدكتور رفيق  خوري، والذي استحق لقب كَبِير اللاهوتيين الفلسطنيين، كي يبقى عطائه غزيراً خاصة في زمن نحن أحوج ما نكون لمثل هذا الخطاب العقلاني والنبوي.

  بيت لحم، الموافق الأول من أيار ٢٠١٦

القس د. متري الراهب