ثلاثون عاماً من الخدمة الكنسية

وأما أنت فإذهب ونادي بملكوت الله لوقا 60:9

أصحاب السيادة والمعالي والسعادة،

السفراء الأجانب المحترمون، أعضاء اللجنة الرئاسية للشؤون الكنسية، الآباء الأفاضل، الحضور الكريم كل بإسمه ولقبه،

أيتها الطائفة الحبيبة،

قبل ثلاثين سنة ونيف، وبالتحديد في أيار 1987 وقبل عودتي من ألمانيا أوكلت إلي مهمة رعاية كنيسة الميلاد هنا في بيت لحم.

لم تكن هذه الكنيسة خياري، بل كنت أطمح أن أكون قسيساً في رام الله أو في بيت جالا، ولكني رأيت في  قرار الكنيسة هذا دعوة إلهية، قبلتها دون تردد. ولم تمضِ سوى أشهر قليلة على عودتي، واندلعت الإنتفاضة الأولى، وكانت المواجهات تحصل حول هذه الكنيسة ورأيت جنود الإحتلال الإسرائيلي يعتقلون شباب هذه الكنيسة وأعضاءها دون محاكمة أو لائحة إتهام... ولم تسعفني الدكتوراة في مثل هذه المواقف، بل كان عليّ أن أُنصِت الى آلام شعبي وآمالهم.

 

لقد أراد الله بحكمته أن أبدأ خدمتي في زمن الإنتفاضة، وكانت صلاتي يوم رسامتي في 22/5/1988 "إلهي أنت ترى أبناء شعبي يتأرجحون بين الخوف والأمل، تارة يرعبهم الشك، وتارة يغمرهم الفرح، فهلا أعطيتني كلمة نبوية تضيء لهم دربهم، كلمة تكشف لهم حاضرهم وتنير لهم مستقبلهم." وكانت هذه هي دعوتي!

 

وبعدها بأسبوع تم تنصيبي راعياً لهذه الكنيسة واخترتُ يومها كلمات يسوع "أنتُم ملحُ الأرض، أنتم نورُ العالم" عنواناً لخدمتي وقلت آنذاك:

" الأرض الفلسطينية بحاجة إليكم يا معشر المسيحيين!

إذ ما فائدةُ الأرضِ بدونكم؟ فأنتم ملحها وأنتم تعيدون لها طعمها، أنتم جزء صغير من هذا الشعب ولكنكم جزء تفوق أهميتُه عَدَدَهُ ... وأنهيت عظتي عندها بالقول:

 فقومي أيتها المسيحية المشرقية الى المكان المعدّ لكِ وتذكّري دعوتك... وانهضي أيتها الكنيسة اللوثرية لتخدمي شعبك ووطنك...

 وتعالي بنا أيتها الطائفة البيتلحمية لتنيري طرقات بلد... ولا تنسيْ كلماتِ سيدك، فالأرض بحاجة إليك والعالم بانتظارك!" وصارت هذه دعوة هذه الكنيسة!

وإبان السنين الثلاثين الأخيرة تجاوَبَت هذه الكنيسة مع دعوتها، وأدركت أن لها رسالة للبلاد وأن لها خدمة للعباد... وصارت الكنيسة الصغيرة التي عاشت على هامش المدينة القديمة، صارت منارة ليس لهذه المدينة فحسب بل مركزاً دولياً يؤمه الرؤساء والوزراء، والوفود، والحجاج، ليتعرّفوا على طعم المسيحية الفلسطينية وعلى دور الكنيسة في هذا المجتمع وتحت الاحتلال بالذات.

في الثلاثين سنة الأخيرة عشنا معاً ساعات تاريخية... وفي كل محطة من هذه المحطات تركنا بصماتنا: فمع بدء الإنتفاضة الأولى بدأنا بمسيرة لكتابة لاهوت مسيحي فلسطيني ومع قدوم السلطة استرجعنا أرض مرير ومن مشروع بيت لحم 2000 إنبثقت دار الندوة الدولية وفي الانتفاضة الثانية خرجت من هنا أكبر مسيرة شموع سلمية تنادي بنورِالحق لا نارِ المدافع...

ولكن الرسالة المجتمعية لم تثننا يوماً عن الاهتمام بالحياة الروحية لهذه الكنيسة، بل العكس هو الصحيح...

في الأعوام الثلاثين المنصرمة تعلمت هذه الكنيسة أن تأخذ العظة على محمل الجد... إذ لم تعد العظة مجرد شطحات دينية، بل ربطت العظة الكلمة بالواقع، وأعادت اكتشاف الرواية الكتابية وعلاقتها بالرواية الفسطينية...

وفي دروس الكتاب المقدس الفصلية راحت هذه الكنيسة تدرس الكتاب المقدس وتتبحر به، وهناك فَهِمَت معنى اللاهوت السياقي، وتَدَرَّبَت أن تقرأ الكتاب المقدس في أرض الكتاب المقدس، وفي سياقه التاريخي والجيوسياسي والثقافي...

عبر السنين الثلاثين الأخيرة إِنصَّبَّ إهتمامُنا على العناية بالشبيبة... لذلك حاولنا وقدر المستطاع أن نستثمر في شبيبة هذه الكنيسة، وأن نمكنهم أكاديمياً، فابتعثنا العشرات الى الجامعات المحلية منها والأجنبية لينهلوا علماً ومعرفة، ورجعوا جميعاً، لم يتخلف منهم واحد، رجعوا ليخدموا شعبَهم وطنَهم واليومَ ها هم اللذين ثبتهم شباباً، ها هم يتبوّأون المراكز في المؤسسات الكنسية والمجتمعية. ولا أبالغ أن قلت أننا أستطعنا في السنين الثلاثين الأخيرة من الحد من ظاهرة "الهجرة"، فلم تهاجر طوال هذه السنين الثلاثين سوى عائلة واحدة ليس إلا وفي المقابل رجع شبابٌ كثيرون. ويسرنا أن نُخَرِّج من رحم هذه الطائفة 5 أعضاء درسوا اللاهوت إثنتان منهم حصلوا على درجة الدكتوراه فيها.

 

أجل آمنت هذه الكنيسة بدعوتها لذلك راحت وعبر السنوات تكثر العطاء سنة تلو الاخرى، وفي كل سنة تتحدى نفسها لتضرب رقماً قياسياً في التبرع... وصار لسان حالهم يقول: ليس المهم ماذا تعطيني الكنيسة، بل ماذا أعطي أنا للكنيسة. إذا كان يوجد مقياس لصحة الكنيسة، أو بارومتر لقياس روحانية الكنيسة فهو العطاء، وهذه الكنيسة أثبتت على مدى السنين الأخيرة انها كنيسة روحانية وبامتياز.

 وإبان سنين خدمتي كان هناك إهتمام واضح بتراث هذه الكنيسة وبتاريخها... فقمنا بترميم الكنيسة من الأساس وحتى رأس الجرسية، كي تبقى هذه الكنيسة شامخة وشاهدة، ولكن لم نهتم بالحجر فقط، بل وجهنا إهتمامنا الى تاريخها... فقمنا بنشر كتاب عن حياة المطران نعيم نصار، والقس باسم نجم، وابنة الكنيسة كريمة عبود رائدة التصوير النسوي، واليوم إنتهينا من كتابة تاريخ هذه الكنيسة باللغة العربية ونشره ليصبح في متناول الجميع، ونحن نعمل حالياً على نشر مذكرات توفيق كنعان كبير علماء الإنسان الفلسطيني، بالإضافة الى عشرات المؤلفات الاخرى والتي تؤرخ رواية هذا الشعب الشفوية وإبداعاته في شتى المجالات.

ولم نغفل الاهتمام بالهوية اللوثرية فأطلقنا أول موقع إلكتروني باسم لوثر بالعربية قمنا بترجمة أهم أعمال المُصْلِح من الالمانية الى العربية، كما ورحنا ننشر العظات الأحديّة أسبوعياً على موقعي الشخصي والذي صار يتردد عليه الوعاظ من الشام لبغداد ومن مصر فتطوان.

وفي السنين الثلاثين الأخيرة لا أبالغ إن قلت إنّ بيت لحم صارت مصدرَ إلهام للكثير من المشاريع في الطوائف الأخرى، من السياحة وحتى الثقافة، وحتى جمع الأموال، راحت الطوائف تتمثل بنا وتنقل أفكارنا وطرقنا وإن دلً هذا على شيء إنما يدل على أنّ الله أرادنا مصدر إلهام لكثيرين.

 

واليوم إذْ أترك مركزي راعياً رئيساً لهذه الكنيسة، فهذا لا يعني أنني أترك الكنيسة، بل سأبقى راعياً متفرغاً للخدمة خارج الرعية. فهناك الكثير من الأمور التي آمل ان أنجزها في الفصل الأخير من حياتي:

منذ اليوم الأول كان همّي الأول أن يكون للكنيسة دور في المجتمع، واليوم إذْ أترك منصبي هذا إنما لأتفرغ لمهمتين:

الأولى: كلية دار الكلمة الجامعية للفنون والثقافة هذه النبتة التي زرعت قبل أحد عشر عاماً، والتي أصبحت اليوم مدينة على جبل والتي صارت اكبر مشروع في تاريخ الكنيسة منذ تأسيسها.

الثانية: هناك حاجة اليوم لصوت مسيحي فلسطيني نبوي في المحافل الدولية، صوت يدافع عن الحق، ويدافع عن الحرية، ويدافع عن الإنسانية.

وكنت قد اشتركت في السنين الخمس الأخيرة باطلاق عدة منابر شرق أوسطية وشبكات لاهوتية اقليمية ودولية بحاجة الى بعض الوقت مني...

 

اليوم ازداد إيماني أن ملكوت الله هو أكبر من الكنيسة، ولا يجوز ان نحصر العمل داخل أسوار الكنيسة بل أن العالم الواسع هو مسرح لعمل الملكوت.

ثلاثون سنة مضت، وأذكر أنْ قال لي أحدُهم بعدما استلمت مهمتي راعياً لهذه الكنيسة، لن تصمد، بل ستهاجر... وصمدت، احتملت الكنيسة والكنيسة إحتملتني، لم أهاجرْ ولم أكفرْ بدعوتي، بل على العكس تماماً... لم أندمْ يوماً على لحظة واحدة من خدمتي في هذه الكنيسة... وسأبقى مخلصاً لها... فهي كنيسة الآباء والأجداد، إذ كان جدي متري الراهب أول تلحمي يدخل مدرسة شنلر في عام 1868.

 

في الثلاثين سنة الأخيرة، لم تكن طريقُنا يوماً مفروشة بالورود والرياحين، فلا الرياحُ السياسية ولا التطوراتُ الاقتصادية، كانت مواتيةً لنا، فمن وزارة الخارجية الإسرائيلية التي أعلنت الحرب علينا وما زالت، الى الحاسدين والحاقدين من داخل الكنيسة وخارجها، محاولات كثيرة كانت وما زالت للنيْل من عملنا، ولكن لم يكن يزدنا ذلك إلا إصراراً على المضي في العمل كي يبقى في هذه الأرض قبساً من رجاء...

 

إذ أتأمل في هذه السنين الثلاثين الأخيرة لا يسعني إلا أن أقول:

لقد وضعنا الله في المكان المناسب- بيت لحم

وفي الوقت المناسب-رغم صعوبته من احتلال وجدران وتحديات؛

ومع الشركاء المناسبين الذين آمنوا بهذه الدعوة ولم يبخلوا علينا يوماً بدعمهم...

ولم يبخل علينا بالرسالة المناسبة:

 رسالة رجاء زمن اليأس

 ورسالة عمل بلا قنوط

ورسالة حياة تتحدى ثقافة الموت...

 

واليوم وبعد ثلاثين سنة قد أتت الساعة لأسلِّم ما تسلمت أنا أيضاً... أن أسلم الوديعة لزميلي القس د. منذر إسحق...

لم أترك هذه الطائفة قبل أن أتأكد أنها في أيدٍ أمينة، وأنّ هناك المؤَهّلُ ليقود هذه الكنيسة إلى آفاق جديدة لذلك أترك ونفسي مطمئنة، وكلي يقين أن الذي إبتدأ فيكم عملاً صالحاً سيكمله إلى النهاية.

 

بعد ثلاثين سنة ونيف يصعب الفراق...

ففي هذه السنين جميعاً فرحنا وضحكنا معاً... وحلمنا وعملنا معاً، وبكينا ورقصنا معاً، كسرنا الخبز وشربنا الكأس، واحتفلنا وسمعنا مع الاطفال قصص حيمو، وجعلنا من احتفالاتنا مقاومة مبدعة...

 

بعد ثلاثين سنة ونيف يصعب الفراق...

فعبر هذه السنين كنا أنا وزوجتي معكم في السراء كما في الضراء...

في المرض كما في المناسبات، إيماناً منا أننا عائلة واحدة...

أجل ثلاثون عاماً وزوجتي نعم الرفيق... لم تتخلف عن مناسبة واحدة بل قامت بأكثر مما هو مطلوب منها كزوجة للراعي.. وبدونها لما استطعنا ان ننجز ما انجزنا.

 

ثلاثون سنة وأنا أعمل، فإن أصبت فذلك لأنَّ نعمةَ الله كانت علي...

وإن أخطأت، وجل من لا يخطئ، فأنا أتحمل المسؤولية!

أما إن أخطاتُ بحقِّ أيٍّ منكم فأرجو المغفرة...

وأطلب أن تصلوا من أجلي ومن أجل زوجتي وعائلتي...

 

في الاختام، أشكر الله على دعوته لي في هذه الكنيسة، ,أشكر هذه الطائفة وعمدتها في بيت لحم على دعمهم لي، والشكر موصول لسيادة المطران والزملاء والشركاء جميعاً. وفقكم الله وقواكم في محبيه وخدمته. آمين        

 

بيت لحم ، الموافق 9/6/2017